هشاشة الكائن ونزيف الروح في رواية “بانسيه”
قراءة نقدية للروائي اليمني "الغربي عمران"
بقلم/ الغربي عمران، روائي وناقد يمني
من الصعب الإلمام بفحوى أي نص .. مهما تعددت قراءاته خاصة ونحن أمام تجدد في الأساليب الفنية والبلاغية.. وأمام موجة من الكتابات الروائية الجديدة التي من الواجب القاء التحية عليه بمحاولة استبطان مراميها . “بانسيه” أولى روايات الشاعرة المتميزة عبير العطار. والصادرة مؤخرا في القاهرة.
قراءتها للمارة الثانية باحثا عن زاوية لتناولها.. لاجدني في كل مرة أمام تجدد نابض بالأنوثة.. تلك التي تعبر عن هشاشة بانسية .. الشخصية الغرائبية في ردود أفعالها… مشاعرها.. وعيها.. تفاصيل تقربك بشخصيتها التي تبدو لأول وهلة متناقضة.. ذلك الكائن الذي يقودك إلى هواجسه .. يصارع وقد وقف بين الحياة والموت.. تراه وتشعر به وهو على سرير المرض. وقد أصابت الكاتبة حين اختارت أسم بطلتها كعنواناً لروايتها “بانسيه”.
بداية من وجودها في المستشفى.. لنعرف بعد عدة صفحات أن السبب محاولتها الانتحار.. هذه المعرفة تقود للتساؤل.. فالمحاولة فعل مثير.. حتى نجد الإجابة كان علينا الابحار في الرواية … وقبل أن يستدل القارئ عن دوافعها للانتحار.. يبرز موضوع آخر إذ أن ذكر زوجها نبيل ضمن السياق دون أن تحدد وجودة على قيد الحياة من عدمه .. يضاعف التساؤلات.. مثل هل لا يزال على قيد الحياة أم قضى نحبه.. هل هما متطلقان أم ما زالا.. حتى نجد أجوبة لتساؤلاتنا في مرحلة متقدمة من القراءة.. إذ أن حديثا بينها شقيقتها عائشة حول كتابة الفيلا التي تعيش فيها باسمها. أو كما تقول له ضمن سياق حديث بينهما أن سائق زوجها قد جاء بالعربة.. وهنا نستدل أن نبيل لم يمت وأنهما لا يزالا متزوجين.
تدور الشخصيات من حولها بداية بعائشة ووجدي شقيقها إلى الطبيب المعالج.. وأدهم سائق زوجها… ومن خلال ما تصفه الكاتبة نعرف أن بانسيه تعيش في وضع معيشي جيد.. فسيارة زوجها الفخمة تقلها إلى فيلا فخمة بعد أن خرجت من المشفى.. ثم استقبال الخدم لها.
تنتقل الكاتبة لتصف بانسيه وهي في حالة سجودها الأخيرة لصلاة الفجر.. حين تسمع صوت والدها يأتيها على غير عادته عالياً “بانسية البسي ثيابك سريعاً سوف نغادر.. الجيش العراقي هجم على البلاد”. دخول الولد الذي لم يذكر من قبل يزيد الوضع إثارة. ومع تزايد التساؤلات وتلك الصور المتخيلة من خلال الوصف الدقيق لأجواء القتال الذي حول الكويت إلى جحيم.. ثم الهرب من العمارة التي كانت تسكنها وأسرتها تحت وابل الرصاص. لنكتشف بعد عدة صفحات أن بانسيه في حالة تذكر لماضي بعيد.. وأن ذلك ما إلا حديث إلى طبيبها المعالج عله يكتشف جذور حالتها النفسية التي تعذبها.. وإن تلك ذكريات من زمن مضى حين كانت تعيش وأسرتها في الكويت .. وأنها الحاضر تعيش في القاهرة مع زوجها الثاني سامي.
الكاتبة استخدمت تقنية الرسم بالكلمات لترسم ما يشبه المخطط البياني.. لتصحبنا صعودا وهبوطاً بين الحاضر و الماضي البعيد.. وأحداث الأمس القريب.. مجسدة الحياة المضطربة التي تعيشها بانسيه.. كما أجادت حبكها لصراع الأزلي بين الخير الشر من خلال تلك الشخصيات التي تتصارع حول بناسية. إذ مثل زوجها الأول نبيل وهو المحامي الكبير الشيطان حين كان يضربها بعنف حتى يفقدها الوعي.. مشيع بين من حولها بأنها مضطربة نفسيا وأنه يحميها من محاولة الانتحار. وشقيقتها عائشة ظهرت بدور الشريرة بعد أن قامت بتزوير أوراق منزل أسرتها وبيعه.. مستغلة عجز والدتها وغياب بانسيه للدراسة في بريطانيا.. واضعة والدتها في دار للمسنين. وكذلك شخصية وائل زميل الدراسة الذي يستغل ثقتها به ليستدرجها إلى شقته.. مدعيا بأنه مريض وأنه في أمس الحاجة لإسعافه إلى أقرب مشفى.. وحين تحضر هلعة.. تجده في كامل صحته.. بل ويحاول اغتصابها. مقابل تلك الشخصيات الشريرة كانت هناك شخصيات خيرة تأتي على رأسهم بانسيه.. التي مثلت الشخصية المضطربة والمركبة.. حين بدت للمتلقي كائن هش ونائح من قسوة الحياة ووحشية البشر.
الكاتبة سردت أحداث الرواية من خلال صوتين .. الصوت العليم.. وصوت مشارك “بانسيه”.. التي ظلت تحكي في جلسات متقطعة لطبيبها ماضيها.. حتى يستطيع تشخيص حالتها. وتلك حيلة فنية لسرد الماضي من خلال حوارية بين الطبيب ومريضته.. وبذلك أخرجت لنا الكاتب رواية فيها من التشويق الشيء الكثير. كما منح االقارئ نوع من الحيوية كاسرا رتابة الصوت الواحد. إضافة أفق المكان المتعدد لوقوع أحداث الرواية الذي توزعت بين الكويت والقاهرة حتى وادي النطرون.. وإلى لندن. تناولت الرواية بشكل أساسي قضية شائكة يعاني منها الإنسان المعاصر وخاصة سكان المدن.. وهي افتقاده للحب والأمان.. الإحساس بالوحدة والحاجة للسلام الروحي.. إضافة إلى ثيمات منها الخيانة.. العقوق.. الصداقة.. الذبول العاطفي. فمن خلال بوح بانسيه وما تعانيه يغوص بوحها بالمتلقي إلى أعماق معاناتها .. بوح وحوار وتساؤلات مع الذات يعتبر من خصائص الرواية الحديثة التي يعتمد الكاتب على الحوار الذاتي لشخصياته.. ومن خلال ذلك يقترب المتلقي أكثر من وعي الشخصية وحالتها الفكرية والحياتية.
بانسيه كائن محطم.. تكتسب عطف القارئ.. تتحدث عن تفاصيل معاناته لحياة مليئة بالإخفاقات والفقد.. عن حاجتها لحياة بسيطة.. إلى شخص يفهمها.. شخص يحنوا عليها.. يشعرها بالأمان والحب.. بعد أن كانت حياتها سلسلة الام.. بداية بفقد والدها ثم والدتها.. ولم يأتي زوجها نبيل ليضمد جراحا بل عاملها بقسوة.. لشعوره أنها لم تمنحه الإحساس بالأبوة بعد أن فشلت في الإتيان بطفل. ورغم عنفه وتعدد خياناته لها إلا أنها لم تحقد عليه وكأنها استمرأت الاضطهاد.. بل أن حالتها زادت سوء وقد علمت بسقوط الطائرة التي كان على متنها عائدا من باريس.. وقتل جميع من كانوا عليها.. لتقرر لحظتها الانتحار.. في الوقت الذي كان المتلقي فرحتها وقد تخلصت من جلادها.
الكاتبة أجادت اللعب بالزمن .. حين تعود بالقارئ إلى بداية أحداث رواياتها بعد أن أبحر في قراءتها بعيدا.. إذ أن أولى صفحاتها تحدثنا عن وجود بانسيه في المستشفى وهو الحاضر الروائي.. متبعة تقنية عودة على بدء.. في دائرة تبدأ من الحاضر لتعود للماضي ليسير خط الحداث في دائرة تنتهي من حيث بدأت. مع النهاية نجد الأحداث تصل ببانسيه إلى حياة سعيدة بعد أن تزوجت من يحتويها ويحنوا عليه.. لتنجب طفلة جميلة.. لكن تبقى شيء آخر أن تلك السعادة لم تكتمل وأن بانسيه ظلال الماضي ظل مخيم .
في نهاية هذه القراءة السريعة .. تبقى قول ما لم تقوله الرواية.. وهو أن الكائن البشري يسير إلى حتفه دون أن يدري.. فمع تطور التكنولوجيا واتساع المدن وتعقيداتها.. وتداخل المصالح.. يضيع الإنسان في ذلك الصخب الذي صنعه.. ويفقد روح الطبيعة.. الكاتبة أرادت أن تقول بأن المال والثراء قد لا يجلب السعادة.. وأن الإنسان إن لم يجد الحب والسلام النفسي في من حوله يفقد طعمه للحياة وقد يفضل نهاية حياته. ولذلك يلجأ الكائن للغيبيات بحثا عن حلول.. فيزور الأضرحة.. ويترك كفه لتفتش بين خطوطه غجرية عن أمل محتمل… فرغم تقدم العلم وتطور وعي الكائن إلا أنه يلجأ للخرافات عله يلتمس سعادة مفقودة.
من يقرأ بانسيه.. ينتظر من الكاتبة المزيد من الأعمال.. فاذا كانت هذه أولى أعمالها الروائية.. فكيف سيكون الجديد.. سنظل على أمل قراءته.