قراءة نقدية في رواية “فُلك النور” للكاتب “فكري عمر”
بقلم/ القاص والروائي المصري “أحمد ثروت”
من السطر الأول في رواية “فُلك النور” للكاتب “فكري عمر”، نعرف اسم “ياسر الدسوقي”، ومن الصفحة الأولى نعرف اسم “أكرم سليمان”، إنهما اسمين عاديين لا يحملان إشارة واضحة لسمات مميزة بعد، وحدث جاذب في نفس الصفحة -الأولى- فيُدخل الكاتب القارئَ أجواء الرواية سريعاً، يجعله يبحث ويقرأ بسرعة ونهم ليعرف ماذا سيحدث بعد، ولماذا حدث كل هذا.. تذكر أننا نتحدث عن الصفحة الأولى فحسب.نجحت البداية.
حيث يمهد “فكري” جيداً لبداية الرحلة، حين نقابل للمرة الأولى اسم “فُلك النور” في الصفحة التاسعة عشر من رواية تحوي مئة واثنين وأربعين صفحة.
وضع الكاتب في البداية خلفية بسيطة لكنها معقولة للبطل، وللشخصيات القريبة منه، ليستطيع القارئ فهم واستقبال ما سيحدث لاحقاً. إنها إشارات قليلة لكنها واضحة، حول تركيبة البطل، علاقته الأولية بالدين، بالله، وبمجتمعه القديم الجديد. كيف ربّاه والداه على أسس محددة، وما هو تأثير هذه التربية، إنه تأسيس ناجح للشخصية المحورية في النص، الذي تظهر له توجيهات أو نصائح أمه في كل أزمة يواجهها، بداية من معركته في العمل التي تسببت في نقله، وليس انتهاءً بتعامله مع السائق المستغل أو جلوسه جوار باب السيارة مُعرضاً للهبوط والصعود مع نزول كل راكب او صعود آخر جديد. إن كلمات أمه ترافقه طول الوقت.
إن شخصية “أكرم سليمان” سحرية في مجتمع ينتمي لعالم السحر والجن والعفاري، فهي شخصية واقعية تحمل احتمالاتها الفانتازية في بداية السرد حولها، فتفتح للكاتب مساراً أكثر اتساعاً يستطيع من خلاله طرح أفكاره بأريحية أكثر.
مبارك، الإخوان، أسرة النور، وقبل ذلك كله الإشارات التي لا تنتهي حول الوضع الاجتماعي والإنساني الذي يقابله البطل، تقول أن السياسة هي الحياة، والحديث عن الحياة حديث في السياسة، يعرض البطل وجهة نظره طول الوقت عن طريق تفنيد وجهات نظر الآخرين المخالفة لما يعتقده، فلم يكن السرد في هذه اللحظات مملاً أو تقريرياً ، بل كان دوماً متناسقاً ومتداخلاً مع حالة السرد العامة في الرواية.
إن تقنية الفلاش باك التي اتبعها المؤلف في معظم سطور الرواية كانت تؤسس للشخصيات على طول الخط، تخلقها من لحم ودم وإحساس، وفي ذات الوقت كانت عاملاً مهماً في تطور الرواية واستمرارها نحو الأمام. إن مجرد استعراض تحول الشخصيات وتطورها من الماضي للحاضر كان بناءً بارعاً يسمو كلما تقدمنا في القراءة، فيبدو السرد فنياً سلساً هادئاً.
عالم الأحلام كان أيضاً سلساً، لا يبدو مقحماً أو شاذاً عن مسار السرد، بل وُفق الكاتب تماماً في صنع ضفيرة فنية تحوي الواقع والحلم، الأفكار والأحداث والرؤى، كلها تسير نحو القارئ كموجات صغيرة متتابعة، لتشكيل الموجة الأكبر.. عالم الرواية الكُلّي.
أمّا ثورة يناير المجيدة، فكانت الإشارات لها سريعة جداً، كأن الكاتب يود فعلاً أن يكتبها ويكتب عنها بتفصيل أكثر، لكنه يؤجل ذلك للحظة التي ينضج فيها الحدث بداخله، كما قال البطل في إحدى جمله في الرواية.
نذهب لعنوان الرواية: “فُلك النور”.. التفسير الأولي للعنوان يوجه القارئ نحو فهم معين، لا يلبث أن يتغير بعد بداية الرواية بوقت قصير، ليكتشف القارئ أنه اسم شخصية في الرواية، فتظهر الطبقة الثانية من المعنى، ثم تنكشف الطبقات عن “فُلك النور” صفحة بعد أخرى، وحكاية تلو الأخرى، حتى يتشكل لدى القارئ في النهاية وعي جديد بمعنى العنوان وإشاراته. رواية بديعة استمتعت بها».